علاقة العقل بالنقل
التمويه للأخطبوط
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم ، مشاهدينا الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأهلاً ومرحباً بكم إلى لقاءٍ جديد من برنامج :"سنريهم آياتنا" ، يسرني أن أستقبل أيضاً فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، أهلاً بكم .
الدكتور راتب :
بكم أستاذ معتز جزاك الله خيراً .
الأستاذ معتز :
أستاذ راتب ناقشنا في نهاية حلقتنا الماضية العلاقة بين العقل والحق ، وكنتم قد حددتم ثلاثة خطوط للحق ، وقلتم : إنه دائرة يتقاطع من خلالها النقل الصحيح والعقل الصريح والواقع الموضوعي والفطرة السليمة ، هنا أريد أن أسألك عن نقطة علاقة العقل بالنقل ، أولاً ما هو النقل ؟
الدكتور راتب :
النقل كلام الله ، وما صحّ من سنة رسول الله ، نقل عن الله وعن الصادق المصدوق ، النقل بشكل أو بآخر وحي السماء ، وبيان هذا الوحي من قبل المعصوم هو النقل، شيء جاءنا عن الله عز و جل ، ديننا دين وحي ، ديننا ليس ديناً أرضياً ، أحياناً بعض المسلمين يخطؤون فيسمون الدين تراثاً ، الدين ليس تراثاً ، الدين وحي ، والأجانب أحياناً الغربيون يصفون النبي بأنه عبقري ، النبي نبي يوحى إليه ، الذي جاء به ليس من عنده من عند الله ، حتى كل أقواله ، وأفعاله ، وإقراراته ، هي سنةٌ من عند الله عز و جل ، فنحن يجب أن نعتقد هذا الاعتقاد الصحيح ، فالنقل ما جاءنا من الله عن طريق الوحي قرآناً هو وحيٌ متلو ، وسنة صحيحة هي وحيٌ غير متلو .
الأستاذ معتز :
وما علاقة النقل بالعقل ؟
الدكتور راتب :
الله عز و جل زودنا بالعقل ، لكن لو فرضنا أنا أعطيتك عشرة أثواب قماش ، وعند تجار القماش مصطلح الثوب له مدراج ، له طول ملصقٌ عليه قد يكون اثنين وعشرين يرداً ، أو ثلاث وعشرين ، أو خمس وعشرين ، أو ثماني عشرة
فهذا الطول مثبت على الثوب بلصاقة ، وأنت معك يرد ، اليرد هو العقل ، اليرد الخشبي هو العقل ، واللصاقة على الثوب هي النقل ، يمكن أن يعطيك البائع يرداً خشبياً نظامياً لتتأكد من طول هذه الأثواب ويأتي الجواب سلبياً ؟ مستحيل ، يقول لك : هذه الأثواب قيست بعناية فائقة ، وكل ثوب عليه طوله ، وإن شئت التأكد خذ هذا اليرد وقس هذه الأثواب، فالجهاز الذي يعطيك قياساً صحيحاً هو العقل ، والنقل هو ما جاء في الوحي ، الخمر حرام لأنها تذهب العقل ، الربا حرام لأنه يجمع الأموال بأيدٍ قليلة ، فالعقل هو هذا الجهاز الذي أكرمنا الله به ، بعضهم قال : و السماء رفعها و وضع الميزان ، النقل كلام الواحد الديان ، النقل شرح المعصوم لكلام الواحد الديان ، العقل جهاز ، لذلك ما دام العقل من خلق الله عز و جل و ما دام الكون من خلق الله عز و جل فلابد من أن يتطابق العقل مع النقل ، أي ليس من المعقول أن يقول الله شيئاً ويقول العقل خلافه أبداً ، العقل الصريح يتطابق تطابقاً تاماً مع النقل الصحيح ، أما حينما لا يتطابق العقل مع النقل الجواب : لعدم قطعية أحدهما ، إذا لم يتطابق العقل مع النقل مثلاً إنسان أحرجك بهذا السؤال : العقل لا يتطابق مع النقل لعدم قطعية أحدهما قد يكون النقل غير صحيح ، وقد تكون القضية العلمية ليست ثابتة قطعاً ، فإذا تعارضا فلعدم قطعية أحدهما ، وإذا توافقا فهذا هو الأصل ، أي لا يمكن أن يقول العقل لشيءٍ جاء به النقل غير منطقي وغير صحيح ، إذا كان عقلاً صريحاً ، أما إذا كان عقلاً تبريرياً التعارض لابد منه .
الأستاذ معتز :
ما الفرق بين العقل الصريح والعقل التبريري ؟
الدكتور راتب :
التبريري نستخدم العقل لتبرير أخطائنا ، الإنسان يسرق وبعد أن يسرق يقول : هذا مال حرام أنا اخترته لأنه مال حرام ، هذا خلاف المنطق ، خلاف الشرع ، فالعقل التبريري بعد أن يرتكب الإنسان الخطأ الفاحش يحاول أن يغطيه بكلام معسول ، هذا العقل ساقط عند الله وعند الناس .
الأستاذ معتز :
طالما أن هناك تقسيمات للعقل ، العقل الصريح والعقل التبريري لكن أريد أن أسأل ما هي مبادئ هذا العقل ؟
الدكتور راتب :
الحقيقة العقل ماذا أقول لك ؟ أكثر العباقرة لم يستخدموا واحد من مئة من إمكانات عقولهم أكبر هدية من الله ، العقل جهاز لا يفهم الأشياء التي حوله إلا وفق مبادئ .
الأستاذ معتز :
ما هي هذه المبادئ ؟
1 ـ السببية :
الدكتور راتب :
السببية أحد هذه المبادئ ، العقل لا بفهم شيئاً بلا سبب ، فأنت لو أغلقت الباب إغلاقاً محكماً ، وأطفئت الأنوار ، ورجعت إلى البيت بعد أسبوع ورأيت الأنوار متألقة ، لا يمكن أن تقبل أنها تألقت لذاتها إلا إن دخل إنسان للبيت ، تقلق أشد القلق ، عقلك لا يقبل شيئاً بلا سبب ، ولا يقبل شيئاً بلا غاية ، تبحث عن السبب ، معظم الناقلات صهريج واحد ، عندما وضع على الناقلة طبقة ثانية هناك حكمة ، هذا ينقل وقود طائرات سريع التبخر ، وقد يحترق من أشعة الشمس ، فتوضع له طبقة ، لماذا وضعت سلسلة وراء السيارة أثناء سيرها ؟ هذه لامتصاص الصواعق ، أنت لا تقبل شيئاً بلا سبب .
2 ـ الغائية :
لو أمرت إنساناً أن يذهب إلى حلب ، أنت مدير مؤسسة قلت له : اذهب وارجع لماذا ؟ هكذا عمل غير معقول لابد من غاية ، لابد من سبب ، ولكن العقل لا يقبل التناقض ، الشيء الذي يلفت النظر أن مبادئ الكون هناك أسباب وهناك غايات ، لماذا البقرة قد يجمع في ثدييها خمسون كيلو غرام ، والوليد يحتاج إلى خمسة كيلو فقط ، لماذا عشرة أضعاف ؟ ما الغاية من ذلك ؟ ما في ثدييها من حليب هو طعامٌ لنا ، لا يمكن أن تفهم الأمور إلا بالسببية ، و الغائية ، وعدم التناقض .
3 ـ عدم التناقض :
هل تقبل أن يكون الإنسان في حلب وفي الشام بآنٍٍ واحد ؟ مستحيل وألف ألف مستحيل ، فعقلك له مبادئ ؛ الأول : هو السببية ، والثاني : هو الغائية ، والثالث : هو عدم التناقض ، وأنت حينما تفكر في هذا الكون تقول : من أين جاءت هذه الدجاجة ؟ من البيضة والبيضة من دجاجة سابقة .
العقل لابد من أن يصل إلى شيء وجد أولاً ، كأن الله نقلك بلطفٍ عجيب من هذه الأسباب الأرضية إلى مسبب الأسباب ، أما لو أن الله عز و جل خلق الأشياء بلا أسباب أي نستيقظ فنجد مليون طن خبز في الأرض ، فهذا شيء مستحيل لأن الخبز يحتاج إلى زراعة قمح ، والقمح يحتاج إلى عناية ، وإلى تسميد ، وإلى سقي ، وإلى مكافحة أمراض ، ثم نجني هذا المحصول ، ثم نضعه على البيدر نطحنه ثم نخبزه ، فهذا الرغيف له أسباب ، كأس الماء له أسباب ، أنت حينما تفكر في الأسباب تنقلك هذه الأسباب إلى مسبب الأسباب إلى الله ، لا يقبل العقل شيئاً بلا سبب .
﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) ﴾
(سورة الكهف )
فإذا أحبّ الله أن يكرم إنساناً بأسباب ييسر له عملاً مربحاً مثلاً ، وإذا أحبّ أن يعاقب إنساناً بأسباب يأخذ لبه من رأسه ، يرتكب حماقةً فتدمره حتى إذا أعطى بسبب ، وإذا أخذ بسبب ، فالسبب الكون مبنيٌ عليه ، والعقل لا يفهم شيئاً بلا سبب ، كل شيء له غاية ، مرة كنت في العمرة وجدت مكتبة مصاحف في صدر المقام النبوي الشريف ، لكن غطاء هذه المكتبة مائل لماذا ؟ المكتبات كلها سقفها مستوٍ أما هذه المكتبة فسقفها مائل لماذا ؟
الأستاذ معتز :
ما السبب؟
الدكتور راتب :
يخافون أن يضع المعتمر حذاءه فوق المصاحف ، إذاً لا يمكن استعمال سقف هذه المكتبة ، أنت لو فكرت أي شيء له سبب ، له غاية ، فالعقل البشري من مبادئه السببية والغائية ، لو فرضنا مجرماً اتهم بقتل إنسان في دمشق ، وجاء هذا المجرم المتهم بوثيقة من محافظ حلب ، والمحافظ موثوق ، وثيقة خطية من محافظ حلب أو اتصل معنا هاتفياً ، وقال : كان عندي وقت وقوع الجريمة ، ألا يحكم له بالبراءة ؟ لأن العقل لا يقبل أن يكون في الشام وفي حلب بآن واحد ، العقل إذاً من مبادئه السببية والغائية وعدم التناقض .
الأستاذ معتز :
قبل ذلك كنت أسأل أن العقل يرتبط به مباشرةً شيء اسمه المعرفة ، ما أريد أن أسأل عنه ما هي وسائل هذه المعرفة ؟
1 ـ دائرة المحسوسات :
الدكتور راتب :
الحقيقة وسائل هذه المعرفة ثلاث وسائل ، نحن عندنا معرفة حسية ـ أو هي ثلاث أنواع بالأحرى ـ معرفة حسية أداة اليقين بها الحواس الخمس ، أنا بعيني أرى المصباح متألقاً ، أنا بعيني أرى المروحة تدور ، أنا بعيني أرى هذه الطاولة ، أرى هذا الورق ، أرى هذه الساعة ، هذا بالعين ، عندنا دائرة اسمها دائرة المحسوسات ، أداة اليقين بها الحواس الخمس ، أو الآن استطالات الحواس الخمس ، فالمرصد استطالة للعين ، والميكروسكوب استطالة ، ومكبر الصوت استطالة ، فإما أن أرى الأشياء المحسوسة بحواسي الخمس أو أن أستعين بأدوات تعد تطويراً للحواس الخمس ، أنا بالتحليل يكشف لي إن وجد في الطعام مادة صناعية أو طبيعية ، دسم صناعي أم طبيعي ، فالأشياء المحسوسة أداة اليقين بها الحواس الخمس ، هذه لا تعنينا كثيراً .
2 ـ دائرة المعقولات :
لكن الدائرة الثانية المعقولات ، المعقولات أي شيء ظهرت آثاره واختفت عينه ، كالكهرباء ، أثر الكهرباء ترى مصباحاً متألقاً ، ترى سخاناً يدفئ ، ترى مروحة تدور ، أنت لا ترى إلا أثر الكهرباء ، فالشيء الذي غابت عينه وبقيت آثاره هذا هو المجال الوحيد للعقل، المجال الوحيد للعقل ما غابت عينه وبقيت آثاره ، لذلك الله عز و جل يُعرف بالعقول ، آثاره واضحة ، ذاته مستحيل أن نراها ، لا تدركه الأبصار ولكن آثاره هو الكون ، والكون مظهرٌ لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى ، فبالعقل الإنسان يرى عظمة الله عز و جل ، إذاً الدائرة الثانية أو النوع الثاني من المعلومات معلومات عقلية ، أشياء اختفت ذاتها وبقيت آثارها ، ترى آثار عجلات سيارة بطريق ترابي فتعرف أن السيارة صغيرة لأن المسافة صغيرة وعرض العجلة صغير ، أحياناً ترى أن المركبة كبيرة جداً للتباعد بين العجلات ، وهناك عجلات مزدوجة في الخلف إذاً آثار كبيرة ، وقد ترى مثلاً جدول ماء أي نبعاً ، لذلك هذا الذي قال : "الماء يدل على الغدير ، والأقدام تدل على المسير ، أفسماء ذات أبراج وأرضٌ ذات فجاج ألا تدلان على الحكيم الخبير" .
هذا هو الحقل الثاني ، شيءٌ اختفت ذاته وبقيت آثاره ، صديقي في البيت سيارته واقفة السيارة ملكه هو أحد آثاره ، تحكم على صديق أنه بالبيت من وجود سيارته خارج البيت .
الأستاذ معتز :
ما المبدأ الثالث أو الوسيلة الثالثة؟
3 ـ دائرة الإخباريات :
الدكتور راتب :
الثالث دقيق جداً ، الإخباريات شيءٌ غابت عينه وآثاره ، ليس له أثر ، لكن الله أخبرنا به ، هل هناك جن ؟ نؤمن بالجن تصديقاً لله عز و جل ، هل هناك ملائكة تكتب عليكم أعمالكم ؟ نؤمن بالملائكة تصديقاً لله عز و جل هكذا ، فالإخباريات أداة اليقين بها الخبر الصادق ، لكن العقل لا يمكن أن يكون أداة لمعرفتها ، مستحيل وألفُ ألف مستحيل ، فأنت بين أداة حسيةٍ أداة اليقين بها الحواس الخمس ، وبين أداة عقليةٍ شيءٌ ظهرت آثاره واختفت عينه أداة اليقين بها العقل ، والدائرة الثالثة شيءٌ غابت عينه وآثاره أداة اليقين بها الخبر الصادق عن الله عز و جل .
الأستاذ معتز :
لكن ما المبدأ الذي يجب أن نعتمده في نقاشنا مع أي شخص ؟ مثلاً هناك شخص تقول له : الجن ، الملائكة ، لا يصدق .
الدكتور راتب :
أنا لا أبحث معه هذا إطلاقاً إلى أن يؤمن بالله أولاً ، إذا آمنت بالله خالقاً ومربياً ومسيراً آمنت بكتابه ، هذه الطاولة عليها ساعة ، عليها ورق ، عليها كأس ماء ، وهناك درج مقفول ، مهما كنت ذكياً أنت بحواسك الخمس تستنبط ما على الطاولة ، وأحياناً عليها إضاءة تقول : يوجد بالمكان كهرباء ، الساعة قدرتها بحواسك ، والكهرباء بعقلك ، يوجد بهذا المكان تيار كهربائي لأن هناك ضوءاً متألقاً ، أما هذا الدرج المقفل مهما كنت عبقرياً ، لو كنت اينشتاين لن تعرف ما في هذا الدرج ، إلا إن وثقت بك وأخبرتك ما في درجي ، لذلك إما خبر صادق ، و إما عقل ، و إما نقل .
الأستاذ معتز :
هذه هي وسائل المعرفة الثلاث بالنسبة لمادتنا العلمية لهذا اليوم.
الدكتور راتب :
والله لا زلنا في موضوع التمويه ، والتمويه شيء مدهش.
الأستاذ معتز :
أما زلنا في عالم الحيوان ؟
الدكتور راتب :
نعم .
الأستاذ معتز :
ماذا سنتناول اليوم ؟ أي حيوان ؟
الدكتور راتب :
عن الأخطبوط ، الأخطبوط في البحر، لا يقتصر وجود المهارة في التمويه على الغابات ، أو على الثلوج ، فحسب بل يمكن إيجادها في أعماق البحر أيضاً في الوقت نفسه ، ولعل الأخطبوط أمهر مموهٍ في البحار ، بعض الأنواع من الأخطبوط تحقق تناسقاً تاماً مع لون الصخر ، وأرضية البحر الذي تعيش فيه ، هذا الأخطبوط الذي نتابعه مقلدٌ ماهرٌ إلى أقصى حد ، إلى جانب تقنية التمويه الفائقة لديه فعندما يمر بأرضية بحرٍ رملية يصعب عليه التمويه ، يبدأ باستخدام إمكانيات تقليل الطحلب ، أحياناً يصل تغيير شكل الأخطبوط إلى درجة لا يمكن تمييزه من الصخرة التي يلتصق بها ، على هذه الصخرة إخطبوط آخر كما نرى كأنه صخرة ، إلا أنه يستحيل تمييزه إن لم يتحرك ، إن تحرك نشعر ، وإلا كان صخرةً ، هذا السمك و لأول وهلة يقف وكأنه اختفى داخل الطحلب حيث تظهر الحقيقة ، إذا رجعنا إلى الوراء قليلاً لم يكن أمامنا طحلب بل حصان بحرٍ على شكل طحلب ، هذا حصان البحر على شكل طحلب يرى كأنه إسفنج بحرٍ لأول مرة ، هذا الكائن الحي هو في الحقيقة سمكةٌ بفضل هذه الحاسة الخاصة لتحقيق وظيفة الصنارة تستطيع اصطياد الأسماك الصغيرة ، الحقيقة التمويه في الأراضي وفي البحار وفي كل مكان ، والحيوانات يقومون بتمويه ماهر جداً لدرجة أنه يعد التمويه بالنسبة إليهم أحد وسائل الدفاع عن النفس .